كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأخذ الهدهد الكتاب بمنقاره ودخل عليها من كوة فطرح الكتاب على نحرها وهي راقدة وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة، أو أتاها والجنود حواليها فرفرف ساعة وألقى الكتاب في حجرها وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم.
{قالت} لقومها خاضعة خائفة {يا أيّها المللأ إنّي} وبفتح الياء: مدني {ألقي إليّ كتابٌ كريمٌ} حسن مضمونه وما فيه أو مختوم.
قال عليه الصلاة والسلام: «كرم الكتاب ختمه» وقيل: من كتب إلى أخيه كتابًا ولم يختمه فقد استخف به، أو مصدر ببسم الله الرحمن الرحيم أو لأنه من عند ملك كريم {إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرّحمن الرّحيم} هو تبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت {إني ألقي إلى كتاب كريم} قيل لها: ممن هو وما هو؟ فقالت: {إنه من سليمان} وإنه كيت وكيت.
وأن فيه {ألاّ تعلوا} لا تترفعوا {عليّ} ولا تتكبروا كما يفعل الملوك مفسرة كقوله: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} [ص: 6] يعني أي امشوا {وأتوني مسلمين} مؤمنين أو منقادين وكتب الأنبياء مبنية على الإيجاز والاختصار.
{قالت يا أيّها المللأ أفتوني في أمري} أشيروا علي في الأمر الذي نزل بي.
والفتوى الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتاء في السن، والمراد هنا بالفتوى الإشارة عليها بما عندهم من الرأي، وقصدها بالرجوع إلى استشارتهم تطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا معها {ما كنت قاطعةً أمرًا} فاصلة أو ممضية حكمًا {حتّى تشهدون} بكسر النون، والفتح لحن لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع وهذا في موضع النصب، وأصله تشهدونني فحذفت النون الأولى للنصب والياء لدلالة الكسرة عليها.
وبالياء في الوصل والوقف: يعقوب أي تحضروني وتشيروني وتشهدوا أنه صواب أي لا أبت الأمر إلا بمحضركم.
وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا كل واحد على عشرة الاف.
{قالوا} مجيبين لها {نحن أولوا قوّةٍ وأولوا بأسٍ شديدٍ} أرادوا بالقوة قوة الأجساد والآلات وبالبأس النجدة والبلاء في الحرب {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} أي موكول إليك ونحن مطيعون لك فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة وأنت ذات الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نتبع رأيك.
فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة مالت إلى المصالحة ورتبت الجواب فزيفت أولًا ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه حيث {قالت إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً} عنوة وقهرًا {أفسدوها} خربوها {وجعلوا أعزّة أهلها أذلّةً} أذلوا أعزتها وأهانوا أشرافها وقتلوا وأسروا فذكرت لهم سوء عاقبة الحرب ثم قالت {وكذلك يفعلون} أرادت وهذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير لأنها كانت في بيت الملك القديم فسمعت نحو ذلك ورأت.
ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد.
وقيل: هو تصديق من الله لقولها، واحتج الساعي في الأرض بالفساد بهذه الآية.
ومن استباح حرامًا فقد كفر، وإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين.
{وإنّي مرسلةٌ إليهم بهديّةٍ} أي مرسلة رسلًا بهدية.
{فناظرةٌ} فمنتظرة {بم} أي بما لأن الألف تحذف مع حرف الجر في الاستفهام {يرجع المرسلون} بقبولها أم بردها لأنها عرفت عادة الملوك وحسن مواقع الهدايا عندهم، فإن كان ملكًا قبلها وانصرف، وإن كان نبيًا ردها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه.
فبعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجًا مكللًا بالدر والياقوت وحقًا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رسلًا وأمرت عليهم المنذر بن عمرو بدليل قوله تعالى؛ {بم يرجع المرسلون}.
وكتبت كتابًا فيه نسخة الهدايا وقالت فيه: إن كنت نبيًا فميز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بما في الحق واثقب الدرة ثقبًا واسلك في الخرزة خيطًا.
ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظره، وإن رأيته بشاشًا لطيفًا فهو نبي.
فأقبل الهدهد وأخبر سليمان الخبر كله فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوها في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطًا شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبنات، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفًا فراسخ، والإنس صفوفًا فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على اللبن رموا بما معهم من الهدايا، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق فأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه وقال: أين الحق؟ فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية وقال للمنذر: {ارجع إليهم}.
{فَلَمَّا جَاء} رسولها المنذر بن عمرو {سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} بنونين وإثبات الياء في الوصل والوقف: مكي وسهل، وافقهما مدني وأبو عمرو في الوصل.
{أتمدوني} حمزة ويعقوب في الحالين، وغيرهم بنونين بلا ياء فيهما، والخطاب للرسل {فَمَا ءاتانى الله} من النبوة والملك والنعمة.
وبفتح الباء: مدني وأبو عمرو وحفص {خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم} من زخارف الدنيا {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} الهدية اسم المهدي كما أن العطية اسم المعطي فتضاف إلى المهدي والمهدى له تقول هذه هدية فلان تريد هي التي أهداها أو أهديت إليه، والمعنى إن ما عندي خير مما عندكم وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه فكيف يرضى مثلي بأن يمد بمال بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا فلذلك تفرحون بما تزادون ويهدى إليكم لأن ذلك مبلغ همتكم، وحالي خلاف حالكم وما أرضي منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية.
والفرق بين قولك أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم وبين أن تقوله بالفاء أني إذا قلته بالواو جعلت مخاطبي عالمًا بزيادتي في الغنى وهو مع ذلك يمدني بمال، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفيت عليه حالي فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه، وعليه ورد {فما آتاني الله} ووجه الإضراب أنه لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح إلا أن يهدي إليهم حظ من الدنيا التي يعلمون غيرها.
{ارجع إِلَيْهِمْ} خطاب للرسول أو الهدهد محملًا كتابًا آخر إليهم ائت بلقيس وقومها {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} لا طاقة لهم بها وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة أي لا يقدرون أن يقابلوهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا} من سبأ {أَذِلَّةً وَهُمْ صاغرون} الذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك، والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد.
فلما رجع إليها رسولها بالهدايا وقص عليها القصة قالت: هو نبي وما لنا به طاقة ثم جعلت عرشها في آخر سبعة أبيات وغلقت الأبواب ووكلت به حرسًا يحفظونه، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك لأنظر ما الذي تدعو إليه، وشخصت إليه في إثني عشر ألف.
قيل: تحت كل قيل ألوف فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان.
{قَالَ يَا أَيُّهَا الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به من إجراء العجائب على يده مع إطلاعها على عظم قدرة الله تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمان، أو أراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها وهذا بعيد عند أهل التحقيق، أو أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختبارًا لعقلها {قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن} وهو الخبيث المارد واسمه ذكوان {أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} مجلس حكمك وقضائك {وَإِنّى عَلَيْهِ} على حمله {لَقَوِىٌّ أَمِينٌ} آتي به كما هو لا آخذ منه شيئًا ولا أبدله.
فقال سليمان عليه السلام: أريد أعجل من هذا.
{قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} أي ملك بيده كتاب المقادير أرسله الله تعالى عند قول العفريت، أو جبريل عليه السلام، والكتاب على هذا اللوح المحفوظ، أو الخضر أو آصف بن برخيا كاتب سليمان وهو الأصح وعليه الجمهور، وكان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وهو: يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أو يا إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحدًا لا إله إلا أنت.
وقيل: كان له علم بمجاري الغيوب إلهامًا {أنا ءَاتيك به} بالعرش و{آتيك} في الموضعين يجوز أن يكون فعلًا أو اسم فاعل.
ومعنى قوله: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك.
ويروى أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد عينيه فنظر نحو اليمن فدعا آصف فغار العرش في مكانه ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله تعالى قبل أن يرتد طرفه {فَلَمَّا رَءاهُ} أي العرش {مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} ثابتًا لديه غير مضطرب {قَالَ هذا} أي حصول مرادي وهو حضور العرش في مدة ارتداد الطرف {مِن فَضْلِ رَبّى} عليّ وإحسانه إلي بلا استحقاق مني بل هو فضل خال من العوض صافٍ عن الغرض {ليبلونىِ ءَأشكر} ليمتحنني أأشكر إنعامه {أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنه يحط به عنها عبء الواجب ويصونها عن سمة الكفران ويستجلب به المزيد وترتبط به النعمة، فالشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة.
وفي كلام بعضهم: إن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار.
واعلم أن سبوغ ستر الله تعالى متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقارًا أي لم تشكر لله نعمة {وَمَن كَفَرَ} بترك الشكر على النعمة {فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ} عن الشكر {كَرِيمٌ} بالإنعام على من يكفر نعمته، قال الواسطي: ما كان منا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا وله المنة والفضل علينا.
{قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} غيروا أي اجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله {نَنظُرْ} بالجزم على الجواب {أَتَهْتَدِى} إلى معرفة عرشها أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه {أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ} بلقيس {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} ها للتنبيه والكاف للتشبيه وذا اسم إشارة ولم يقل أهذا عرشك ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقينًا {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فأجابت أحسن جواب فلم تقل هو هو ولا ليس به وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين، أو لما شبهوا عليها بقولهم: {أهكذا عرشك} شبهت عليهم بقولها {كَأَنَّهُ هُوَ} مع أنها علمت أنه عرشها {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} من كلام بلقيس أي وأوتينا العلم بقدرة الله تعالى وبصحة نبوتك بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة أي إحضار العرش أو من قبل هذه الحالة {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لك مطيعين لأمرك، أو من كلام سليمان وملئه عطفوا على كلامها قولهم: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين موحدين خاضعين.
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} متصل بكلام سليمان أي وصدها عن العلم بما علمناه أو عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين أظهر الكفرة.
ثم بين نشأها بين الكفرة بقوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} أو كلام مبتدأ أي قال الله تعالى وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل، أو صدها الله، أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل.
{قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح} أي القصر أو صحن الدار {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} ماء عظيمًا {وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} {سأقيها} بالهمزة: مكي.
روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه السمك وغيره، ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس.